فصل: فَصْلٌ: النِّفَاقِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ الذُّنُوبُ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ

وَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَبِالِاعْتِبَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ‏}‏ وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ- مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ‏.‏

وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَلَيْسَ فِيهَا صَغَائِرُ، فَلَيْسَ مُرَادَهُ أَنَّهَا مُسْتَوِيَةٌ فِي الْإِثْمِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إِثْمُ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، كَإِثْمِ الْوَطْءِ فِي الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عُصِيَ بِهَا كُلَّهَا كَبَائِرُ، وَمَعَ هَذَا فَبَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَمَعَ هَذَا فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى‏.‏

وَالَّذِي جَاءَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ لَمَمًا وَمُحَقَّرَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ اللَّمَمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُلِمَّ بِالْكَبِيرَةِ مَرَّةً، ثُمَّ يَتُوبَ مِنْهَا، وَيَقَعُ فِيهَا ثُمَّ يَنْتَهِي عَنْهَا، لَا يَتَّخِذُهَا دَأْبَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ مِنَ الِاجْتِنَابِ إِذْ مَعْنَاهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، وَلَا تَقَعُ مِنْهُمُ الْكَبَائِرُ إِلَّا لَمَمًا‏.‏

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ يَقَعُ مِنْهُمُ اللَّمَمُ‏.‏

وَحَسُنَ وُقُوعُ الِانْقِطَاعِ بَعْدَ الْإِيجَابِ- وَالْغَالِبُ خِلَافُهُ- أَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ حَيْثُ يَقَعُ التَّفْرِيغُ، إِذْ فِي الْإِيجَابِ هُنَا مَعْنَى النَّفْيِ صَرِيحًا، فَالْمَعْنَى‏:‏ لَا يَأْتُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فَحَسُنَ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ‏.‏

وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي شَجَّعَ أَبَا إِسْحَاقَ عَلَى أَنْ قَالَ‏:‏ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرُ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ، وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مِنْ مُوجَبٍ‏.‏

وَلَكِنَّ النُّصُوصَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا‏:‏ فِي اللَّمَمِ مَا هُوَ‏؟‏ وَالثَّانِي‏:‏ فِي الْكَبَائِرِ وَهَلْ لَهَا عَدَدٌ يَحْصُرُهَا، أَوْ حَدٌّ يَحُدُّهَا‏؟‏ فَلْنَذْكُرْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلَيْنِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ اللَّمَمِ

فَأَمَّا اللَّمَمُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ الْإِلْمَامُ بِالذَّنْبِ مَرَّةً، ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ‏:‏ هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ‏:‏ اللَّمَمُ مَا دُونَ الشِّرْكِ قَالَ السُّدِّيُّ‏:‏ قَالَ أَبُو صَالِحٍ‏:‏ سُئِلْتُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏إِلَّا اللَّمَمَ‏}‏‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ هُوَ الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالذَّنْبِ ثُمَّ لَا يُعَاوِدُهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ‏:‏ لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهَا مَلَكٌ كَرِيمٌ‏.‏

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اللَّمَمَ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْهُ قَالَ‏:‏ مَا رَأَيْتُ أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ وَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَى‏.‏

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ‏:‏ اللَّمَمُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا، وَلَا عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، مَا لَمْ يَبْلُغِ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ، يُلِمُّ بِهِ الْمُسْلِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، فَيَتُوبُ مِنْهُ‏.‏

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ‏:‏ هُوَ مَا أَلَمَّ بِالْقَلْبِ، أَيْ مَا خَطَرَ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ‏:‏ اللَّمَمُ النَّظَرُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَهُوَ مَغْفُورٌ، فَإِنْ أَعَادَ النَّظَرَ فَلَيْسَ بِلَمَمٍ، وَهُوَ ذَنْبٌ، وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّمَمَ مَا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، فَاللَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ‏:‏ أَنْتُمْ بِالْأَمْسِ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ‏.‏

وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ اللَّمَمَ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، كَالنَّظْرَةِ، وَالْغَمْزَةِ، وَالْقُبْلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى‏:‏ إِنَّهُ يُلِمُّ بِالْكَبِيرَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ اللَّمَمَ إِمَّا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، وَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا قَالَ الْكَلْبِيُّ، أَوْ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ أَلْحَقَا مَنِ ارْتَكَبَ الْكَبِيرَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً- وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا، بَلْ حَصَلَتْ مِنْهُ فَلْتَةٌ فِي عُمْرِهِ- بِاللَّمَمِ، وَرَأَيَا أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَغَلَّظُ وَتَكْبُرُ وَتَعْظُمُ فِي حَقِّ مَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَوْرِ عُلُومِهِمْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يُسَامِحُ عَبْدَهُ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، وَإِنَّمَا يُخَافُ الْعَنَتُ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ الذَّنْبَ عَادَتَهُ، وَتَكَرَّرَ مِنْهُ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ سَلَفِيَّةٌ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْوَاقِعِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دُفِعَ إِلَيْهِ سَارِقٌ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ غَيْرَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَقَالَ‏:‏ كَذَبْتَ، فَلَمَّا قُطِعَتْ يَدُهُ قَالَ‏:‏ اصْدُقْنِي، كَمْ لَكَ بِهَذِهِ الْمَرَّةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ صَدَقْتَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ بِأَوَّلِ ذَنْبٍ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَأَوَّلُ ذَنْبٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ اللَّمَمَ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَنَظِيرُهُ، فَالْقَوْلَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّفِقَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فِيهَا مَعْنَى الْمُقَارَبَةِ وَالْإِعْتَابِ بِالْفِعْلِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ‏:‏ أَلَمَّ بِكَذَا، إِذَا قَارَبَهُ وَلَمْ يَغْشَهُ، وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتِ الْقُبْلَةُ وَالْغَمْزَةُ لَمَمًا، لِأَنَّهَا تُلِمُّ بِمَا بَعْدَهَا، وَيُقَالُ‏:‏ فُلَانٌ لَا يَزُورُنَا إِلَّا لِمَامًا، أَيْ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَمَعْنَى اللَّفْظَةِ ثَابِتٌ فِي الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ بِهِمَا الْآيَةَ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ فَإِنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَهُ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ اجْتِنَابِ اللَّمَمِ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى مُحْسِنٍ وَمُسِيءٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَجْزِي هَذَا بِإِسَاءَتِهِ وَهَذَا بِإِحْسَانِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُحْسِنِينَ وَوَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، وَمَضْمُونُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْسِنًا مَجْزِيًّا بِإِحْسَانِهِ، نَاجِيًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، إِلَّا مَنِ اجْتَنَبَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فَحَسُنَ حِينَئِذٍ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكَبَائِرِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ‏.‏

وَضَابِطُ الِانْقِطَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دُخُولٌ فِي جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا‏}‏ فَإِنَّ السَّلَامَ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ اللَّغْوِ وَالسَّلَامِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا‏}‏ فَإِنَّ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الذَّوْقِ الْمُنْقَسِمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ فِي الْأَوَّلِ‏:‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا سَلَامًا، وَفِي الثَّانِي‏:‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، وَنَصَّ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ تَصْرِيحًا، لِيَكُونَ نَفْيُهُ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ، لَا بِطْرِيقِ الْعُمُومِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَخْصِيصُ هَذَا الْفَرْدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ فَإِنَّ الظَّنَّ دَاخِلٌ فِي الشُّعُورِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ‏.‏

وَأَدَقُّ مِنْ هَذَا دُخُولُ الِانْقِطَاعِ فِيمَا يُفْهِمُهُ الْكَلَامُ بِلَازِمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ إِذْ مَفْهُومُ هَذَا أَنَّ نِكَاحَ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ عَفْوٌ، وَكَذَلِكَ ‏{‏وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقُبْحِ الْمَفْهُومِ مِنْ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَالذَّمِّ لِمَنْ فَعَلَهُ، فَحَسُنَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ‏.‏

فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى‏}‏ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ لِتَحْقِيقِ دَوَامِ الْحَيَاةِ وَعَدَمِ ذَوْقِ الْمَوْتِ، وَهُوَ يَجْعَلُ النَّفْيَ الْأَوَّلَ الْعَامَّ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ اسْتِثْنَاءٌ الْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَكَانَ أَوْلَى بِذِكْرِهِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، فَجَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَجْرَى التَّأْكِيدِ، وَالتَّنْصِيصِ عَلَى حِفْظِ الْعُمُومِ، وَهَذَا جَارٍ فِي كُلِّ مُنْقَطِعٍ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الْعَرَبِيَّةِ‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْأَوَارِيَّ، يُفْهَمُ مِنْهُ لَوْ وَجَدْتُ فِيهَا أَحَدًا لَاسْتَثْنَيْتُهُ وَلَمْ أَعْدِلْ إِلَى الْأَوَارِيِّ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَحَدٍ‏.‏

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا لَفْظَةُ ‏"‏ أَوْ ‏"‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ هُوَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْحَقِيقَةُ لَا الْمُبَالَغَةُ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تَزِدْ قَسْوَتُهَا عَلَى الْحِجَارَةِ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ لَا دُونَهَا، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُمْ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ لَمْ يَنْقُصْ عَنْهَا، فَذِكْرُ ‏"‏ أَوْ ‏"‏ هَاهُنَا كَالتَّنْصِيصِ عَلَى حِفْظِ الْمِائَةِ الْأَلْفِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا أُرِيدَ بِهَا الْمُبَالَغَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْكَبَائِرُ

وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا اخْتِلَافًا لَا يَرْجِعُ إِلَى تَبَايُنٍ وَتَضَادٍّ، وَأَقْوَالُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ‏.‏

وَفِيهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ‏؟‏- ثَلَاثًا- قَالُوا‏:‏ بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ- وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا- فَقَالَ‏:‏ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا‏:‏ لَيْتَهُ سَكَتَ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏:‏ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ قُلْتُ‏:‏ ثُمَّ أَيْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ قُلْتُ‏:‏ ثُمَّ أَيْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ‏}‏‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتَ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ‏.‏

وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قَالُوا‏:‏ وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ‏.‏

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ‏:‏ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْكَبَائِرِ أَسَبْعٌ هُنَّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هُنَّ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَقَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، مَنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْهَا فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّدُ فِي النَّارِ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ رَاجِعًا عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ جَاحِدًا فَرِيضَةً، أَوْ مُكَذِّبًا بِالْقَدَرِ‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ‏:‏ هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ، أَوْ غَضَبٍ، أَوْ لَعْنَةٍ، أَوْ عَذَابٍ‏.‏

وَقَالَ الضَّحَّاكُ‏:‏ هِيَ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا، أَوْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ‏.‏

وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ‏:‏ مَا سَمَّاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ كَبِيرًا، أَوْ عَظِيمًا، نَحْوَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا‏}‏، ‏{‏إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا‏}‏، ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏، ‏{‏إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ‏}‏، ‏{‏سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ‏}‏، ‏{‏إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ‏:‏ الْكَبَائِرُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمَظَالِمِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْعِبَادِ، وَالصَّغَائِرُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَعْفُو، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ بُطْنَانِ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَفَا عَنْكُمْ جَمِيعِكُمْ، الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتَ، فَتَوَاهَبُوا الْمَظَالِمَ بَيْنَكُمْ، وَادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي‏.‏

قُلْتُ‏:‏ مُرَادُ سُفْيَانَ‏:‏ أَنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ أَسْهَلُ أَمْرًا مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، فَإِنَّهَا تَزُولُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا مَظَالِمُ الْعِبَادِ فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِيفَائِهَا، وَفِي الْمُعْجَمِ لَلطَّبَرَانِيِّ‏:‏ الظُّلْمُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ‏:‏ دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الدِّيوَانَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، لَكِنَّ مُسْتَحِقَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ وَيَهَبُهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَسْتَوْفِيهِ، فَأَمْرُهُ أَسْهَلُ مِنَ الدِّيوَانِ الَّذِي لَا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا لِعَدْلِهِ، وَإِيصَالِ كُلِّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ‏.‏

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ‏:‏ الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالسَّيِّئَاتُ ذُنُوبُ أَهْلِ السُّنَّةِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ يُرِيدُ أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ كَبَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَكَبَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ صَغَائِرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبِدَعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ‏:‏ الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا، وَالْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ الْعَمْدِ، وَالسَّيِّئَاتُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، الْمَرْفُوعَةُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ هَذَا مِنْ أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ طَرْدًا وَعَكْسًا، فَإِنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَالْإِكْرَاهَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ جِنْسِ الْمَعَاصِي، حَتَّى يَكُونَ أَحَدَ قِسْمَيْهَا‏.‏

وَالْعَمْدُ نَوْعَانِ‏:‏ نَوْعُ كَبَائِرَ، وَنَوْعُ صَغَائِرَ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَرَى أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا كَبَائِرُ، وَأَنَّ الصَّغَائِرَ مَا عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّوْعِ بِدُونِ جِنْسِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَحِلِّينَ، مِثْلَ ذَنْبِ إِبْلِيسَ، وَالصَّغَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَغْفِرِينَ، مِثْلَ ذَنْبِ آدَمَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَمَّا الْمُسْتَحِلُّ فَذَنْبُهُ دَائِرٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالتَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ فَكَافِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَمُتَأَوِّلٌ أَوْ مُقَلِّدٌ، وَأَمَّا الْمُسْتَغْفِرُ فَإِنَّ اسْتِغْفَارَهُ الْكَامِلَ يَمْحُو كَبَائِرَهُ وَصَغَائِرَهُ، فَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ‏.‏

فَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادَ صَاحِبِهِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُسْتَحِلُّ مِنَ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عُقُوبَةً مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُعْتَرِفُ بِالتَّحْرِيمِ، النَّادِمُ عَلَى الذَّنْبِ، الْمُسْتَغْفِرُ مِنْهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ‏.‏

وَقَالَ السُّدِّيُّ‏:‏ الْكَبَائِرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ، وَالسَّيِّئَاتُ مُقَدِّمَاتُهَا، وَتَوَابِعُهَا مِمَّا يَجْتَمِعُ فِيهِ الصَّالِحُ وَالْفَاسِقُ، مِثْلَ النَّظْرَةِ وَاللَّمْسَةِ وَالْقُبْلَةِ وَأَشْبَاهِهَا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْكَبَائِرُ مَا يَسْتَصْغِرُهُ الْعِبَادُ، وَالصَّغَائِرُ مَا يَسْتَعْظِمُونَهُ، فَيَخَافُونَ مُوَاقَعَتَهُ، وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَمَّا قَوْلُ السُّدِّيِّ‏:‏ الْكَبَائِرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ، فَبَيَانٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ الْكِبَارَ هِيَ الْكَبَائِرُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قِسْمَانِ، أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ بِنَفْسِهِ، وَنَفْسُ فِعْلِهِ مَنْشَأُ الْمَفْسَدَةِ، فَهَذَا كَبِيرَةٌ، كَقَتْلِ النَّفْسِ وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ وَالزِّنَا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ مَا كَانَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ وَمَبَادِيهِ، كَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ، وَالْحَدِيثِ وَالْقُبْلَةِ، الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَةُ الزِّنَا، فَهُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، فَالصَّغَائِرُ مِنْ جِنْسِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَالْكَبَائِرُ مِنْ جِنْسِ الْمَقَاصِدِ وَالْغَايَاتِ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ قَالَ‏:‏ مَا يَسْتَصْغِرُهُ الْعِبَادُ فَهُوَ كَبَائِرُ، وَمَا يَسْتَكْبِرُونَهُ فَهُوَ صَغَائِرُ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفَرْقَ رَاجِعٌ إِلَى اسْتِكْبَارِهِمْ وَاسْتِصْغَارِهِمْ، فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْتَصْغِرُ النَّظْرَةَ، وَيَسْتَكْبِرُ الْفَاحِشَةَ‏.‏

وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اسْتِصْغَارَهُمْ لِلذَّنْبِ يُكَبِّرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَاسْتِعْظَامَهُمْ لَهُ يُصَغِّرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا صَغُرَتْ ذُنُوبُهُ عِنْدَهُ كَبُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وَكُلَّمَا كَبُرَتْ عِنْدَهُ صَغُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ- لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَكَمَالِهِمْ- كَانُوا يَعُدُّونَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ مُوبِقَاتٍ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ- لِنُقْصَانِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْهُمْ، وَتَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمْ- صَارَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فِي أَعْيُنِهِمْ أَدَقَّ مِنَ الشَّعْرِ‏.‏

وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا فَانْظُرْ هَلْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ إِذَا سَمِعَ نَصَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضَهُ بِقِيَاسِهِ، أَوْ ذَوْقِهِ، أَوْ وَجْدِهِ، أَوْ عَقْلِهِ، أَوْ سِيَاسَتِهِ‏؟‏ وَهَلْ كَانَ قَطُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُقَدِّمُ عَلَى نَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْلًا أَوْ قِيَاسًا، أَوْ ذَوْقًا، أَوْ سِيَاسَةً، أَوْ تَقْلِيدَ مُقَلِّدٍ‏؟‏ فَلَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَعْيُنَهُمْ وَصَانَهَا أَنْ تَنْظُرَ إِلَى وَجْهِ مَنْ هَذَا حَالُهُ، أَوْ يَكُونَ فِي زَمَانِهِمْ، وَلَقَدْ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَنْ قَدَّمَ حُكْمَهُ عَلَى نَصِّ الرَّسُولِ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ‏:‏ هَذَا حُكْمِي فِيهِ، فَيَالَلَّهُ‏!‏ كَيْفَ لَوْ رَأَى مَا رَأَيْنَا، وَشَاهَدَ مَا بُلِينَا بِهِ مِنْ تَقْدِيمِ رَأْيِ كُلِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَى قَوْلِ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حُكْمُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَمُعَادَاةُ مَنِ اطَّرَحَ آرَاءَهُمْ، وَقَدَّمَ عَلَيْهَا قَوْلَ الْمَعْصُومِ‏؟‏ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَهُوَ الْمُوعِدُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْكَبَائِرُ الشِّرْكُ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَالصَّغَائِرُ مَا عَدَا الشِّرْكَ مِنْ ذُنُوبِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ‏.‏

وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ابْنَ آدَمَ، لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً‏.‏

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا الظُّلْمُ ثَلَاثُ دَوَاوِينَ، دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ الشِّرْكُ، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ بِهِ اللَّهُ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ‏.‏

فَهَذَا جُمْلَةُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ‏.‏

أَمَّا الْآيَةُ‏:‏ فَإِنَّ غَايَتَهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ دُونَ الشِّرْكِ وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنْ أَرَادَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ هَذَا فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ كُلَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ صَغِيرَةٌ فِي نَفْسِهِ، فَبَاطِلٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ وَغَيْرُهُ مِمَّا تَأْتِي عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، فَمَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَمَا دُونَهُ‏؟‏ وَهَلْ هُمَا فِي حَقِّ التَّائِبِ، أَمْ غَيْرِ التَّائِبِ‏؟‏ أَمْ أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ التَّائِبِ وَالْآخَرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ‏؟‏ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏‏؟‏‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ لِطَائِفَةٍ، فَآيَةُ النِّسَاءِ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ هِيَ لِغَيْرِ التَّائِبِينَ فِي الْقِسْمَيْنِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الشِّرْكَ يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُ كَافِرٍ أَبَدًا‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خَصَّصَ مَغْفِرَةَ مَا دُونَ الشِّرْكِ بِمَنْ يَشَاءُ، وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ لِلتَّائِبِينَ عَامَّةٌ لَا تَخْصِيصَ فِيهَا، فَخَصَّصَ وَقَيَّدَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ غَيْرِ التَّائِبِ‏.‏

وَأَمَّا آيَةُ الزُّمَرِ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ فَهِيَ فِي حَقِّ التَّائِبِ، لِأَنَّهُ أَطْلَقَ وَعَمَّمَ، فَلَمْ يَخُصَّهَا بِأَحَدٍ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِذَنْبٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَغْفِرُهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الذُّنُوبِ لَا يَغْفِرُهَا، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ وَالتَّعْمِيمَ فِي حَقِّ التَّائِبِ، فَكُلُّ مَنْ تَابَ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ غُفِرَ لَهُ‏.‏

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الشِّرْكَ كُلَّهُ صَغَائِرُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا فَذُنُوبُهُ مَغْفُورَةٌ كَائِنَةً مَا كَانَتْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ ارْتِبَاطُ إِيمَانِ الْقُلُوبِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَتَعَلُّقُهَا بِهَا، وَإِلَّا لَمْ يُفْهَمْ مُرَادُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقَعُ الْخَلْطُ وَالتَّخْبِيطُ‏.‏

فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ الْعَامَّ لِلشِّرْكِ- أَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا الْبَتَّةَ- لَا يَصْدُرُ مِنْ مُصِرٍّ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَبَدًا، وَلَا يُمْكِنُ مُدْمِنُ الْكَبِيرَةِ وَالْمُصِرُّ عَلَى الصَّغِيرَةِ أَنْ يَصْفُوَ لَهُ التَّوْحِيدُ، حَتَّى لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَالِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى جَدَلِيٍّ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، بَلْ قَلْبُهُ كَالْحَجَرِ أَوْ أَقْسَى، يَقُولُ‏:‏ وَمَا الْمَانِعُ‏؟‏ وَمَا وَجْهُ الْإِحَالَةِ‏؟‏ وَلَوْ فُرِضَ ذَلِكَ وَاقِعًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ‏!‏‏.‏

فَدَعْ هَذَا الْقَلْبَ الْمَفْتُونَ بِجَدَلِهِ وَجَهْلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُوجِبُ مِنْ خَوْفِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَرَجَائِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَحُبِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَذُلِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَتَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُنْغَمِسًا فِي بِحَارِ الشِّرْكِ، وَالْحَاكِمُ فِي هَذَا مَا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ، فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ فَيُورِثَهُ خَوْفًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَذَلِكَ شِرْكٌ، وَيُورِثُهُ مَحَبَّةً لِغَيْرِ اللَّهِ، وَاسْتِعَانَةً بِغَيْرِهِ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوصِلُهُ إِلَى غَرَضِهِ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ لَا بِاللَّهِ وَلَا لِلَّهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الشِّرْكِ‏.‏

نَعَمْ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ تَوْحِيدُ أَبِي جَهْلٍ، وَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنْجَى هَذَا التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ، لِأَنْجَى عُبَّادَ الْأَصْنَامِ، وَالشَّأْنُ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُوَحِّدِينَ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، مُصِرًّا عَلَيْهَا، غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهَا، مَعَ كَمَالِ تَوْحِيدِهِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ، وَالذُّلِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لِلرَّبِّ تَعَالَى‏.‏

وَأَمَّا حَدِيثُ الدَّوَاوِينِ فَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ حَقَّ الرَّبِّ تَعَالَى لَا يَئُودُهُ أَنْ يَهَبَهُ وَيُسْقِطَهُ، وَلَا يَحْتَفِلَ بِهِ وَيَعْتَنِي بِهِ كَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ الْبَتَّةَ، أَوْ أَنَّهُ كُلَّهُ صَغَائِرُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ وَالْإِسْقَاطِ وَالْهِبَةِ مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ‏.‏

فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ‏:‏ الصَّغَائِرُ مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ، وَالْكَبَائِرُ مَا تَعَلَّقَ بِهَا أَحَدُ الْحَدَّيْنِ‏.‏

وَمُرَادُهُمْ بِالْحَدَّيْنِ عُقُوبَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكُلُّ ذَنْبٍ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ مَحْدُودَةٌ فِي الدُّنْيَا، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ، أَوْ عَلَيْهِ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، كَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَخِيَانَتِهِ أَمَانَتَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَصَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْأَحْوَالُ الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا الْكَبِيرَةُ صَغِيرَةً وَبِالْعَكْسِ‏]‏

وَهَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْكَبِيرَةَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا- مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالِاسْتِعْظَامِ لَهَا- مَا يُلْحِقُهَا بِالصَّغَائِرِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالصَّغِيرَةِ- مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَتَرْكِ الْخَوْفِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِهَا- مَا يُلْحِقُهَا بِالْكَبَائِرِ، بَلْ يَجْعَلُهَا فِي أَعْلَى رُتَبِهَا‏.‏

وَهَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ إِلَى مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ، وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُعْفَى لِلْمُحِبِّ، وَلِصَاحِبِ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ، مَا لَا يُعْفَى لِغَيْرِهِ، وَيُسَامَحُ بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ‏:‏ انْظُرْ إِلَى مُوسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- رَمَى الْأَلْوَاحَ الَّتِي فِيهَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ فَكَسَرَهَا، وَجَرَّ بِلِحْيَةِ نَبِيٍّ مِثْلِهِ، وَهُوَ هَارُونُ، وَلَطَمَ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، وَعَاتَبَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَهُ عَلَيْهِ، وَرَبُّهُ تَعَالَى يَحْتَمِلُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُحِبُّهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُدَلِّلُـهُ، لِأَنَّهُ قَامَ لِلَّهِ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةَ فِي مُقَابَلَةِ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ، وَصَدَعَ بِأَمْرِهِ، وَعَالَجَ أُمَّتَيِ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ كَالشَّعْرَةِ فِي الْبَحْرِ‏.‏

وَانْظُرْ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذِهِ الْمَقَامَاتُ الَّتِي لِمُوسَى، غَاضَبَ رَبَّهُ مَرَّةً، فَأَخَذَهُ وَسَجَنَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ لَهُ مَا احْتَمَلَ لِمُوسَى، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ إِذَا أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْمَحَاسِنِ مَا يَشْفَعُ لَهُ، وَبَيْنَ مَنْ إِذَا أَتَى بِذَنْبٍ جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِكُلِّ شَفِيعٍ، كَمَا قِيلَ‏:‏

وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ *** جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيـعِ

فَالْأَعْمَالُ تَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَتُذَكِّرُ بِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الشَّدَائِدِ، قَالَ تَعَالَى عَنْ ذِي النُّونِ ‏{‏فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏، وَفِرْعَوْنُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهُ سَابِقَةُ خَيْرٍ تَشْفَعُ لَهُ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏}‏ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ ‏{‏آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ مَا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ- مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ- يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ، أَفَلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ‏؟‏ وَلِهَذَا مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ أَفْلَحَ وَلَمْ يُعَذَّبْ، وَوُهِبَتْ لَهُ سَيِّئَاتُهُ لِأَجْلِ حَسَنَاتِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا يُغْفَرُ لِصَاحِبِ التَّوْحِيدِ مَا لَا يُغْفَرُ لِصَاحِبِ الْإِشْرَاكِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ بِهِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ مَا اقْتَضَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَيُسَامِحَهُ مَا لَا يُسَامِحُ بِهِ الْمُشْرِكَ، وَكَمَا كَانَ تَوْحِيدُ الْعَبْدِ أَعْظَمَ، كَانَتْ مَغْفِرَةُ اللَّهِ لَهُ أَتَمَّ، فَمَنْ لَقِيَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا الْبَتَّةَ غَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا، كَائِنَةً مَا كَانَتْ، وَلَمْ يُعَذِّبْ بِهَا‏.‏

وَلَسْنَا نَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ بِذُنُوبِهِ، وَيُعَذَّبُ عَلَى مِقْدَارِ جُرْمِهِ، ثُمَّ يُخْرَجُ مِنْهَا، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِمَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ‏.‏

وَنَزِيدُ هَاهُنَا إِيضَاحًا لِعِظَمِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ أَشِعَّةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُبَدِّدُ مِنْ ضَبَابِ الذُّنُوبِ وَغُيُومِهَا بِقَدْرِ قُوَّةِ ذَلِكَ الشُّعَاعِ وَضَعْفِهِ، فَلَهَا نُورٌ، وَتَفَاوُتُ أَهْلِهَا فِي ذَلِكَ النُّورِ- قُوَّةً، وَضَعْفًا- لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ نُورُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي قَلْبِهِ كَالشَّمْسِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهَا فِي قَلْبِهِ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهَا فِي قَلْبِهِ كَالْمَشْعَلِ الْعَظِيمِ‏.‏

وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ، وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ‏.‏

وَلِهَذَا تَظْهَرُ الْأَنْوَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيْمَانِهِمْ، وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ، عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، بِحَسَبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نُورِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً وَحَالًا‏.‏

وَكُلَّمَا عَظُمَ نُورُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَاشْتَدَّ أَحْرَقَ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَى حَالٍ لَا يُصَادِفُ مَعَهَا شُبْهَةً وَلَا شَهْوَةً، وَلَا ذَنْبًا، إِلَّا أَحْرَقَهُ، وَهَذَا حَالُ الصَّادِقِ فِي تَوْحِيدِهِ، الَّذِي لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَأَيُّ ذَنْبٍ أَوْ شَهْوَةٍ أَوْ شُبْهَةٍ دَنَتْ مِنْ هَذَا النُّورِ أَحْرَقَهَا، فَسَمَاءُ إِيمَانِهِ قَدْ حُرِسَتْ بِالنُّجُومِ مِنْ كُلِّ سَارِقٍ لِحَسَنَاتِهِ، فَلَا يَنَالُ مِنْهَا السَّارِقُ إِلَّا عَلَى غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا لِلْبَشَرِ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ وَعَلِمَ مَا سُرِقَ مِنْهُ اسْتَنْقَذَهُ مِنْ سَارِقِهِ، أَوْ حَصَّلَ أَضْعَافَهُ بِكَسْبِهِ، فَهُوَ هَكَذَا أَبَدًا مَعَ لُصُوصِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَيْسَ كَمَنْ فَتَحَ لَهُمْ خِزَانَتَهُ، وَوَلَّى الْبَابَ ظَهْرَهُ‏.‏

وَلَيْسَ التَّوْحِيدُ مُجَرَّدَ إِقْرَارِ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، كَمَا كَانَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ مُقِرِّينَ بِذَلِكَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، بَلِ التَّوْحِيدُ يَتَضَمَّنُ- مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالذُّلِّ لَهُ، وَكَمَالِ الِانْقِيَادِ لِطَاعَتِهِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْمَنْعِ، وَالْعَطَاءِ، وَالْحُبِّ، وَالْبُغْضِ- مَا يَحُولُ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْمَعَاصِي، وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا عَرَفَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَقَوْلَهُ‏:‏ لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى ظَنَّهَا بَعْضُهُمْ مَنْسُوخَةً، وَظَنَّهَا بَعْضُهُمْ قِيلَتْ قَبْلَ وُرُودِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ، وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى نَارِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الدُّخُولَ بِالْخُلُودِ، وَقَالَ‏:‏ الْمَعْنَى لَا يَدْخُلُهَا خَالِدًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ‏.‏

وَالشَّارِعُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَاصِلًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِ اللِّسَانِ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ تَحْتَ الْجَاحِدِينَ لَهَا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ، وَقَوْلِ اللِّسَانِ، وَقَوْلُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَالتَّصْدِيقِ بِهَا، وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ- مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، الَّتِي يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا لِغَيْرِهِ، وَقِيَامُ هَذَا الْمَعْنَى بِالْقَلْبِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَيَقِينًا، وَحَالًا- مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ قَائِلِهَا عَلَى النَّارِ، وَكُلُّ قَوْلٍ رَتَّبَ الشَّارِعُ مَا رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ التَّامُّ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ- أَوْ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ- وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَلَيْسَ هَذَا مُرَتَّبًا عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِ اللِّسَانِ‏.‏

نَعَمْ مَنْ قَالَهَا بِلِسَانِهِ، غَافِلًا عَنْ مَعْنَاهَا، مُعْرِضًا عَنْ تَدَبُّرِهَا، وَلَمْ يُوَاطِئْ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، وَلَا عَرَفَ قَدْرَهَا وَحَقِيقَتَهَا، رَاجِيًا مَعَ ذَلِكَ ثَوَابَهَا، حَطَّتْ مِنْ خَطَايَاهُ بِحَسَبِ مَا فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، فَتَكُونُ صُورَةُ الْعَمَلَيْنِ وَاحِدَةً، وَبَيْنَهُمَا فِي التَّفَاضُلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏.‏

وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ الْبِطَاقَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَيُقَابِلُهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَتَثْقُلُ الْبِطَاقَةُ وَتَطِيشُ السِّجِلَّاتُ، فَلَا يُعَذَّبُ‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ بِذُنُوبِهِ، وَلَكِنَّ السِّرَّ الَّذِي ثَقَلَ بِطَاقَةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَطَاشَتْ لِأَجْلِهِ السِّجِلَّاتُ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْبِطَاقَاتِ، انْفَرَدَتْ بِطَاقَتُهُ بِالثِّقَلِ وَالرَّزَانَةِ‏.‏

وَإِذَا أَرَدْتَ زِيَادَةَ الْإِيضَاحِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَانْظُرْ إِلَى ذِكْرِ مَنْ قَلْبُهُ مَلْآنٌ بِمَحَبَّتِكَ، وَذِكْرِ مَنْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْكَ غَافِلٌ سَاهٍ، مَشْغُولٌ بِغَيْرِكَ، قَدِ انْجَذَبَتْ دَوَاعِي قَلْبِهِ إِلَى مَحَبَّةِ غَيْرِكَ، وَإِيثَارِهِ عَلَيْكَ، هَلْ يَكُونُ ذِكْرُهُمَا وَاحِدًا‏؟‏ أَمْ هَلْ يَكُونُ وَلَدَاكَ اللَّذَانِ هُمَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، أَوْ عَبْدَاكَ، أَوْ زَوْجَتَاكَ، عِنْدَكَ سَوَاءً‏؟‏‏.‏

وَتَأَمَّلْ مَا قَامَ بِقَلْبِ قَاتِلِ الْمِائَةِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَمْ تَشْغَلْهُ عِنْدَ السِّيَاقِ عَنِ السَّيْرِ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَحَمَلَتْهُ- وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ- عَلَى أَنْ جَعَلَ يَنُوءُ بِصَدْرِهِ، وَيُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، فَهَذَا أَمْرٌ آخَرُ، وَإِيمَانٌ آخَرُ، وَلَا جَرَمَ أَنْ أُلْحِقَ بِالْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، وَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا‏.‏

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَامَ بِقَلْبِ الْبَغِيِّ الَّتِي رَأَتْ ذَلِكَ الْكَلْبَ- وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ يَأْكُلُ الثَّرَى- فَقَامَ بِقَلْبِهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ- مَعَ عَدَمِ الْآلَةِ، وَعَدَمِ الْمُعِينِ وَعَدَمِ مَنْ تُرَائِيهِ بِعَمَلِهَا- مَا حَمَلَهَا عَلَى أَنْ غَرَّرَتْ بِنَفْسِهَا فِي نُزُولِ الْبِئْرِ، وَمَلْءِ الْمَاءِ فِي خُفِّهَا، وَلَمْ تَعْبَأْ بِتَعَرُّضِهَا لِلتَّلَفِ، وَحَمْلِهَا خُفَّهَا بِفِيهَا، وَهُوَ مَلْآنٌ، حَتَّى أَمْكَنَهَا الرُّقِيُّ مِنَ الْبِئْرِ، ثُمَّ تَوَاضُعُهَا لِهَذَا الْمَخْلُوقِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِضَرْبِهِ، فَأَمْسَكَتْ لَهُ الْخُفَّ بِيَدِهَا حَتَّى شَرِبَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْجُوَ مِنْهُ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، فَأَحْرَقَتْ أَنْوَارُ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّوْحِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا مِنَ الْبِغَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا‏.‏

فَهَكَذَا الْأَعْمَالُ وَالْعُمَّالُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْغَافِلُ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا الْإِكْسِيرِ الْكِيمَاوِيِّ، الَّذِي إِذَا وُضِعَ مِنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ عَلَى قَنَاطِيرَ مِنْ نُحَاسِ الْأَعْمَالِ قَلَبَهَا ذَهَبًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏قُوَّةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ الَّتِي يُسَامَحُ صَاحِبُهَا بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ‏]‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْمُحِبَّ يُسَامَحُ بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ، وَيُعْفَى لِلْوَلِيِّ عَمَّا لَا يُعْفَى لِسِوَاهُ، وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ أَيْضًا، يُغْفَرُ لَهُ مَا لَا يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ، كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ- مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ إِنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ- إِذَا جَمَعَ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، قَالَ لِلْعُلَمَاءِ‏:‏ إِنِّي كُنْتُ أُعْبَدُ بِفَتْوَاكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْلِطُونَ كَمَا يَخْلِطُ النَّاسُ، وَإِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمُ، اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا‏.‏

فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَكِنْ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْعُقُوبَةِ الْمُضَاعَفَةِ الَّتِي وَرَدَ التَّهْدِيدُ بِهَا فِي حَقِّ أُولَئِكَ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُكْرَهُ‏؟‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ‏}‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا‏}‏ أَيْ لَوْلَا تَثْبِيتُنَا لَكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَلَوْ فَعَلْتَ لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ، أَيْ ضَاعَفْنَا لَكَ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ‏}‏ أَيْ لَوْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِيَمِينِهِ، وَقَطَعْنَا نِيَاطَ قَلْبِهِ وَأَهْلَكْنَاهُ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى أَعْدَائِهِ بِذَرَّةٍ مِنْ قَلْبِهِ، وَمِنَ التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمْ مِنْ رَاكِنٍ إِلَى أَعْدَائِهِ وَمُتَقَوِّلٍ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَدْ أَمْهَلَهُ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، كَأَرْبَابِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ، الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ‏.‏

وَمَا ذَكَرْتُمْ فِي قِصَّةِ يُونُسَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسَامَحْ بِغَضْبَةٍ، وَسُجِنَ لِأَجْلِهَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَيَكْفِي حَالُ أَبِي الْبَشَرِ حَيْثُ لَمْ يُسَامَحُ بِلُقْمَةٍ، وَكَانَتْ سَبَبَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا حَقٌّ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ كَمُلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ، وَاخْتَصَّهُ مِنْهَا بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ غَيْرَهُ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا مَا حُرِمَهُ غَيْرُهُ، فَحُبِيَ بِالْإِنْعَامِ، وَخُصَّ بِالْإِكْرَامِ، وَخُصَّ بِمَزِيدِ التَّقْرِيبِ، وَجُعِلَ فِي مَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ الْحَبِيبِ، اقْتَضَتْ حَالُهُ مِنْ حِفْظِ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِأَنْ يُرَاعِيَ مَرْتَبَتَهُ مِنْ أَدْنَى مُشَوِّشٍ وَقَاطِعٍ، فَلِشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَمَزِيدِ تَقْرِيبِهِ، وَاتِّخَاذِهِ لِنَفْسِهِ، وَاصْطِفَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ، تَكُونُ حُقُوقُ وَلِيِّهِ وَسَيِّدِهِ عَلَيْهِ أَتَمَّ، وَنِعَمُهُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ فَوْقَ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ إِذَا غَفَلَ وَأَخَلَّ بِمُقْتَضَى مَرْتَبَتِهِ نُبِّهَ بِمَا لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ الْبَرَّانِيُّ، مَعَ كَوْنِهِ يُسَامَحُ بِمَا لَمْ يُسَامَحْ بِهِ ذَلِكَ أَيْضًا، فَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ الْأَمْرَانِ‏.‏

وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَعَدَمِ تَنَاقُضِهِمَا، فَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ يُسَامِحُ خَاصَّتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ بِمَا لَمْ يُسَامِحْ بِهِ مَنْ لَيْسَ فِي مَنْزِلَتِهِمْ، وَيَأْخُذُهُمْ، وَيُؤَدِّبُهُمْ بِمَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَوَاهِدَ هَذَا وَهَذَا، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ‏.‏

وَأَنْتَ إِذَا كَانَ لَكَ عَبْدَانِ، أَوْ وَلَدَانِ، أَوْ زَوْجَتَانِ، أَحَدُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الْآخَرِ، وَأَقْرَبُ إِلَى قَلْبِكَ، وَأَعَزُّ عَلَيْكَ عَامَلْتَهُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَاجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ الْمُعَامَلَتَانِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَحُبِّكَ لَهُ، وَعِزَّتِهِ عَلَيْكَ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى كَمَالِ إِحْسَانِكَ إِلَيْهِ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِكَ عَلَيْهِ اقْتَضَتْ مُعَامَلَتُهُ بِمَا لَا تُعَامِلُ بِهِ مَنْ دُونَهُ، مِنَ التَّنْبِيهِ وَعَدَمِ الْإِهْمَالِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى إِحْسَانِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَكَ، وَطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ وَنُصْحِهِ وَهَبْتَ لَهُ وَسَامَحْتَهُ، وَعَفَوْتَ عَنْهُ، بِمَا لَا تَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَالْمُعَامَلَتَانِ بِحَسَبِ مَا مِنْكَ وَمَا مِنْهُ‏.‏

وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الشَّرْعِ، حَيْثُ جَعَلَ حَدَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالتَّزَوُّجِ إِذَا تَعَدَّاهُ إِلَى الزِّنَا الرَّجْمَ، وَحَدَّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْجَلْدَ، وَكَذَلِكَ ضَاعَفَ الْحَدَّ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي قَدْ مَلَّكَهُ نَفْسَهُ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ، وَجَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ الْمَنْقُوصِ بِالرِّقِّ، الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ نِصْفَ ذَلِكَ‏.‏

فَسُبْحَانَ مَنْ بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَجَزَائِهِ عُقُولَ الْعَالَمِينَ، وَشَهِدَتْ بِأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ‏.‏

لِلَّهِ سِرٌّ تَحْتَ كُلِّ لَطِيفَــةٍ *** فَأَخُو الْبَصَائِرِ غَائِصٌ يَتَمَلَّقُ

فَصْلٌ‏:‏ فِي أَجْنَاسِ مَا يُتَابُ مِنْهُ

‏[‏الْكُفْرُ‏]‏ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ اسْمَ التَّائِبِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا‏.‏

وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ جِنْسًا مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، هِيَ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ‏:‏ الْكُفْرُ، وَالشِّرْكُ، وَالنِّفَاقُ، وَالْفُسُوقُ، وَالْعِصْيَانُ، وَالْإِثْمُ، وَالْعُدْوَانُ، وَالْفَحْشَاءُ، وَالْمُنْكَرُ، وَالْبَغْيُ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَاتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

فَهَذِهِ الِاثْنَا عَشَرَ جِنْسًا عَلَيْهَا مَدَارُ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِلَيْهَا انْتِهَاءُ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِمْ إِلَّا أَتْبَاعَ الرُّسُلِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ أَكْثَرُهَا وَأَقَلُّهَا، أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَقَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَعْلَمُ‏.‏

فَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ هِيَ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا، وَالتَّحَصُّنِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا لِمَنْ عَرَفَهَا‏.‏

وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا، وَنَذْكُرُ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ وَمَا افْتَرَقَتْ، لِتَتَبَيَّنَ حُدُودَهَا وَحَقَائِقَهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، كَمَا وَفَّقَ لَهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏

وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ أَنْفَعِ فُصُولِ الْكِتَابِ، وَالْعَبْدُ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَيْهِ‏.‏

الْكُفْرُ

فَأَمَّا الْكُفْرُ فَنَوْعَانِ‏:‏ كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَكُفْرٌ أَصْغَرُ‏.‏

فَالْكَفْرُ الْأَكْبَرُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ‏.‏

وَالْأَصْغَرُ مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ دُونَ الْخُلُودِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى- وَكَانَ مِمَّا يُتْلَى فَنُسِخَ لَفْظُهُ- ‏"‏ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ ‏"‏ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ اثْنَتَانِ فِي أُمَّتِي، هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ‏:‏ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ وَقَوْلُهُ فِي السُّنَنِ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَقَوْلِهِ‏:‏ لَا تَرْجِعُوا بِعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، بَلْ إِذَا فَعَلَهُ فَهُوَ بِهِ كُفْرٌ، وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِدًا لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ مَرْجُوحٌ، فَإِنَّ نَفْسَ جُحُودِهِ كُفْرٌ، سَوَاءٌ حَكَمَ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالَ‏:‏ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ، إِذِ الْوَعِيدُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بِالْمُنَزَّلِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ تَعْطِيلَ الْحُكْمِ بِجَمِيعِهِ وَبِبَعْضِهِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى الْحُكْمِ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، تَعَمُّدًا مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ بِهِ وَلَا خَطَأٍ فِي التَّأْوِيلِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ عُمُومًا‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالضَّحَاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ‏.‏

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَيْنِ، الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ بِحَسَبِ حَالِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَعَدَلَ عَنْهُ عِصْيَانًا، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، فَهَذَا كُفْرٌ أَصْغَرُ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، مَعَ تَيَقُّنِهِ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، فَهَذَا كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَإِنْ جَهِلَهُ وَأَخْطَأَهُ فَهَذَا مُخْطِئٌ، لَهُ حُكْمُ الْمُخْطِئِينَ‏.‏

وَالْقَصْدُ أَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ نَوْعِ الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ، فَإِنَّهَا ضِدُّ الشُّكْرِ، الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ، فَالسَّعْيُ إِمَّا شُكْرٌ، وَإِمَّا كَفْرٌ، وَإِمَّا ثَالِثٌ، لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ‏]‏

وَأَمَّا الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ، فَخَمْسَةُ أَنْوَاعٍ‏:‏ كُفْرُ تَكْذِيبٍ، وَكُفْرُ اسْتِكْبَارٍ وَإِبَاءٍ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَكُفْرُ إِعْرَاضٍ، وَكُفْرُ شَكٍّ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ‏.‏

فَأَمَّا كُفْرُ التَّكْذِيبِ فَهُوَ اعْتِقَادُ كَذِبِ الرُّسُلِ، وَهَذَا الْقِسْمُ قَلِيلٌ فِي الْكُفَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيَّدَ رُسُلَهُ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ مَا أَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ، وَأَزَالَ بِهِ الْمَعْذِرَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقومه‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏‏.‏

وَإِنَّ سُمِّيَ هَذَا كُفْرَ تَكْذِيبٍ أَيْضًا فَصَحِيحٌ، إِذْ هُوَ تَكْذِيبٌ بِاللِّسَانِ‏.‏

وَأَمَّا كُفْرُ الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فَنَحْوُ كُفْرِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْحَدْ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا قَابَلَهُ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمِنْ هَذَا كُفْرُ مَنْ عَرَفَ صِدْقَ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ إِبَاءً وَاسْتِكْبَارًا، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى كُفْرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقومه‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ‏}‏ وَقَوْلِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ ‏{‏إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ وَهُوَ كُفْرُ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏ وَهُوَ كُفْرُ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ صَدَّقَهُ وَلَمْ يَشُكَّ فِي صِدْقِهِ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَتَعْظِيمُ آبَائِهِ أَنْ يَرْغَبَ عَنْ مِلَّتِهِمْ، وَيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ‏.‏

وَأَمَّا كُفْرُ الْإِعْرَاضِ فَأَنْ يُعْرِضَ بِسَمْعِهِ وَقَلْبِهِ عَنِ الرَّسُولِ، لَا يُصَدِّقُهُ وَلَا يُكَذِّبُهُ، وَلَا يُوَالِيهِ وَلَا يُعَادِيهِ، وَلَا يُصْغِي إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ يَالِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاللَّهِ أَقُولُ لَكَ كَلِمَةً، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَأَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَأَنْتَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ‏.‏

وَأَمَّا كُفْرُ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِصِدْقِهِ وَلَا يُكَذِّبُهُ، بَلْ يَشُكُّ فِي أَمْرِهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَمِرُّ شَكُّهُ إِلَّا إِذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْإِعْرَاضَ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَةً، فَلَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا، وَنَظَرِهِ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَكٌّ، لِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّدْقِ، وَلَا سِيَّمَا بِمَجْمُوعِهَا، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الصِّدْقِ كَدَلَالَةِ الشَّمْسِ عَلَى النَّهَارِ‏.‏

وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ فَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ، وَيَنْطَوِيَ بِقَلْبِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَقْسَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْجُحُودُ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ‏]‏

وَكُفْرُ الْجَحُودِ نَوْعَانِ‏:‏ كُفْرٌ مُطَلَقٌ عَامٌّ، وَكُفْرٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ‏.‏

فَالْمُطْلَقُ‏:‏ أَنْ يَجْحَدَ جُمْلَةَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَإِرْسَالَهُ الرَّسُولَ‏.‏

وَالْخَاصُّ الْمُقَيَّدُ أَنْ يَجْحَدَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَحْرِيمَ مُحَرَّمٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِهِ، أَوْ صِفَةٍ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، أَوْ خَبَرًا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، عَمْدًا، أَوْ تَقْدِيمًا لِقَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ عَلَيْهِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ‏.‏

وَأَمَّا جَحْدُ ذَلِكَ جَهْلًا، أَوْ تَأْوِيلًا يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ فَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهُ بِهِ، كَحَدِيثِ الَّذِي جَحَدَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَحْرِقُوهُ وَيَذْرُوهُ فِي الرِّيحِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَرَحِمَهُ لِجَهْلِهِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ مَبْلَغَ عِلْمِهِ، وَلَمْ يَجْحَدْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِعَادَتِهِ عِنَادًا أَوْ تَكْذِيبًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الشِّرْكُ‏]‏

وَأَمَّا الشِّرْكُ، فَهُوَ نَوْعَانِ‏:‏ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ، فَالْأَكْبَرُ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا، يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي تَضَمَّنَ تَسْوِيَةَ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا قَالُوا لِآلِهَتِهِمْ فِي النَّارِ ‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَخْلُقُ وَلَا تُرْزَقُ، وَلَا تُحْيِي وَلَا تُمِيتُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ مُشْرِكِي الْعَالَمِ، بَلْ كُلُّهُمْ يُحِبُّونَ مَعْبُودَاتِهِمْ وَيُعَظِّمُونَهَا وَيُوَالُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ- بَلْ أَكْثَرُهُمْ- يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِذِكْرِهِمْ أَعْظَمَ مِنِ اسْتِبْشَارِهِمْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيَغْضَبُونَ لِمُنْتَقِصِ مَعْبُودِيهِمْ وَآلِهَتِهِمْ- مِنَ الْمَشَايِخِ- أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُونَ إِذَا انْتَقَصَ أَحَدٌ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِنْ حُرُمَاتِ آلِهَتِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ غَضِبُوا غَضَبَ اللَّيْثِ إِذَا حَرِدَ، وَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ لَمْ يَغْضَبُوا لَهَا، بَلْ إِذَا قَامَ الْمُنْتَهِكُ لَهَا بِإِطْعَامِهِمْ شَيْئًا رَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ تَتَنَكَّرْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ شَاهَدْنَا هَذَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْهُمْ جَهْرَةً، وَتَرَى أَحَدَهُمْ قَدِ اتَّخَذَ ذِكْرَ إِلَهِهِ وَمَعْبُودِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ دَيْدَنًا لَهُ إِنْ قَامَ وَإِنْ قَعَدَ، وَإِنْ عَثَرَ وَإِنْ مَرِضَ وَإِنِ اسْتَوْحَشَ، فَذِكْرُ إِلَهِهِ وَمَعْبُودِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَهُوَ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ بَابُ حَاجَتِهِ إِلَى اللَّهِ، وَشَفِيعُهُ عِنْدَهُ، وَوَسِيلَتُهُ إِلَيْهِ‏.‏

وَهَكَذَا كَانَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ سَوَاءً، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِهِمْ، وَتَوَارَثَهُ الْمُشْرِكُونَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ آلِهَتِهِمْ، فَأُولَئِكَ كَانَتْ آلِهَتُهُمْ مِنَ الْحَجَرِ وَغَيْرُهُمُ اتَّخَذُوهَا مِنَ الْبَشَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، حَاكِيًا عَنْ أَسْلَافِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْكَذِبِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ‏}‏‏.‏

فَهَذِهِ حَالُ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا، يَزْعُمُ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمَا أَعَزَّ مَنْ يَخْلُصُ مِنْ هَذَا‏؟‏ بَلْ مَا أَعَزَّ مَنْ لَا يُعَادِي مَنْ أَنْكَرَهُ‏!‏‏.‏

وَالَّذِي فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَسَلَفِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَأَبْطَلَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ، وَرَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، وَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، الَّذِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَتَّخِذْهُمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِهِ، فَيَكُونُ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ صَاحِبُ التَّوْحِيدِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ شَفِيعًا مِنْ دُونِ اللَّهِ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ‏.‏

وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ إِذْنِهِ لِمَنْ وَحَّدَهُ، وَالَّتِي نَفَاهَا اللَّهُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الشِّرْكِيَّةُ، الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، الْمُتَّخِذِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ، فَيُعَامَلُونَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ مِنْ شُفَعَائِهِمْ، وَيَفُوزُ بِهَا الْمُوَحِّدُونَ‏.‏

وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ- وَقَدْ سَأَلَهُ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏- قَالَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ كَيْفَ جَعَلَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا شَفَاعَتُهُ تَجْرِيدَ التَّوْحِيدِ، عَكْسَ مَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تُنَالُ بِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَهُمْ شُفَعَاءَ، وَعِبَادَتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَقَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي زَعْمِهِمُ الْكَاذِبِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ الشَّفَاعَةِ هُوَ تَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، فَحِينَئِذٍ يَأْذَنُ اللَّهُ لِلشَّافِعِ أَنْ يُشَفَّعَ‏.‏

وَمِنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ وَلِيًّا أَوْ شَفِيعًا أَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُ، وَيَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا يَكُونُ خَوَاصُّ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُمْ مَنْ وَالَاهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏}‏ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي ‏{‏وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى‏}‏ وَبَقِيَ فَصْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إِلَّا التَّوْحِيدَ، وَاتِّبَاعَ الرَّسُولِ، وَعَنْ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ يَسْأَلُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ كَلِمَتَانِ يُسْأَلُ عَنْهُمَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ‏:‏ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ‏؟‏ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏؟‏‏.‏

فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُصُولٍ، تَقْطَعُ شَجَرَةَ الشِّرْكِ مِنْ قَلْبِ مَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا لَا شَفَاعَةَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَأْذَنُ إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، وَلَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إِلَّا تَوْحِيدَهُ، وَاتِّبَاعَ رَسُولِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ شِرْكَ الْعَادِلِينَ بِهِ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمَحَبَّةِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وَكَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وَتَرَى الْمُشْرِكَ يُكَذِّبُ حَالَهُ وَعَمَلَهُ قَوْلُهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ لَا نُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَلَا نُسَوِّيهِمْ بِاللَّهِ، ثُمَّ يَغْضَبُ لَهُمْ وَلِحُرُمَاتِهِمْ- إِذَا انْتُهِكَتْ- أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُ لِلَّهِ، وَيَسْتَبْشِرُ بِذِكْرِهِمْ، وَيَتَبَشْبَشُ بِهِ، سِيَّمَا إِذَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مَا لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ إِغَاثَةِ اللَّهَفَاتِ، وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَأَنَّهُمُ الْبَابُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، فَإِنَّكَ تَرَى الْمُشْرِكَ يَفْرَحُ وَيُسَرُّ وَيَحِنُّ قَلْبُهُ، وَتَهِيجُ مِنْهُ لَوَاعِجُ التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ لَهُمْ وَالْمُوَالَاةِ، وَإِذَا ذَكَرْتَ لَهُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَجَرَّدْتَ تَوْحِيدَهُ لَحِقَتْهُ وَحْشَةٌ، وَضِيقٌ، وَحَرَجٌ وَرَمَاكَ بِنَقْصِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَهُ، وَرُبَّمَا عَادَاكَ‏.‏

رَأَيْنَا وَاللَّهِ مِنْهُمْ هَذَا عِيَانًا، وَرَمَوْنَا بِعَدَاوَتِهِمْ، وَبَغَوْا لَنَا الْغَوَائِلَ، وَاللَّهُ مُخْزِيهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا، كَمَا قَالَ إِخْوَانُهُمْ‏:‏ عَابَ آلِهَتَنَا، فَقَالَ هَؤُلَاءِ‏:‏ تَنَقَّصْتُمْ مَشَايِخَنَا، وَأَبْوَابَ حَوَائِجِنَا إِلَى اللَّهِ، وَهَكَذَا قَالَ النَّصَارَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالُوا‏:‏ تَنَقَّصْتَ الْمَسِيحَ وَعِبْتَهُ، وَهَكَذَا قَالَ أَشْبَاهُ الْمُشْرِكِينَ لِمَنْ مَنَعَ اتِّخَاذَ الْقُبُورِ أَوْثَانًا تُعْبَدُ، وَمَسَاجِدَ تُقْصَدُ، وَأَمَرَ بِزِيَارَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَرَسُولُهُ، قَالُوا‏:‏ تَنَقَّصْتَ أَصْحَابَهَا‏.‏

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ قَدْ تَوَاصَوْا بِهِ ‏{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا‏}‏‏.‏

وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا، قَطْعًا يَعْلَمُ مَنْ تَأَمَّلَهُ وَعَرَفَهُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا، أَوْ شَفِيعًا، فَهُوَ‏{‏كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ‏}‏ فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ

وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏‏.‏

فَالْمُشْرِكُ إِنَّمَا يَتَّخِذُ مَعْبُودَهُ لِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ، وَالنَّفْعُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ إِمَّا مَالِكٌ لِمَا يُرِيدُهُ عِبَادُهُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا كَانَ شَرِيكًا لِلْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا لَهُ كَانَ مُعِينًا لَهُ وَظَهِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعِينًا وَلَا ظَهِيرًا كَانَ شَفِيعًا عِنْدَهُ‏.‏

فَنَفَى سُبْحَانَهُ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ نَفْيًا مُتَرَتِّبًا، مُتَنَقِّلًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى مَا دُونَهُ، فَنَفَى الْمِلْكَ، وَالشِّرْكَةَ، وَالْمُظَاهَرَةَ، وَالشَّفَاعَةَ، الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُ، وَأَثْبَتَ شَفَاعَةً لَا نَصِيبَ فِيهَا لِمُشْرِكٍ، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِهِ‏.‏

فَكَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ نُورًا، وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً، وَتَجْرِيدًا لِلتَّوْحِيدِ، وَقَطْعًا لِأُصُولِ الشِّرْكِ وَمُوَدَّاهُ لِمَنْ عَقَلَهَا، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ أَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْعُرُونَ بِدُخُولِ الْوَاقِعِ تَحْتَهُ، وَتَضَمُّنِهِ لَهُ، وَيَظُنُّونَهُ فِي نَوْعٍ وَفِي قَوْمٍ قَدْ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يُعْقِبُوا وَارِثًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ فَهْمِ الْقُرْآنِ‏.‏

وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنْ كَانَ أُولَئِكَ قَدْ خَلَوْا، فَقَدْ وَرِثَهُمْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ، أَوْ شَرٌّ مِنْهُمْ، أَوْ دُونَهُمْ، وَتَنَاوُلُ الْقُرْآنِ لَهُمْ كَتَنَاوُلِهِ لِأُولَئِكَ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ‏.‏

وَهَذَا لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْجَاهِلِيَّةَ وَالشِّرْكَ، وَمَا عَابَهُ الْقُرْآنُ وَذَمَّهُ وَقَعَ فِيهِ وَأَقَرَّهُ، وَدَعَا إِلَيْهِ وَصَوَّبَهُ وَحَسَّنَهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ نَظِيرُهُ، أَوْ شَرٌّ مِنْهُ، أَوْ دُونَهُ، فَيَنْقُضُ بِذَلِكَ عُرَى الْإِسْلَامِ عَنْ قَلْبِهِ، وَيَعُودُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، وَالسُّنَّةُ بِدْعَةً، وَيَكْفُرُ الرَّجُلُ بِمَحْضِ الْإِيمَانِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، وَيُبَدَّعُ بِتَجْرِيدِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُفَارَقَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ وَقَلْبٌ حَيٌّ يَرَى ذَلِكَ عِيَانًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الشِّرْكُ الأَصْغَرُ‏]‏

وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ فَكَيَسِيرِ الرِّيَاءِ، وَالتَّصَنُّعِ لِلْخَلْقِ، وَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ وَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ‏:‏ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَهَذَا مِنَ اللَّهِ وَمِنْكَ، وَإِنَّا بِاللَّهِ وَبِكَ، وَمَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ، وَأَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْكَ، وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا شِرْكًا أَكْبَرَ، بِحَسَبِ قَائِلِهِ وَمَقْصِدِهِ، وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا شِئْتَ‏:‏ أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا‏؟‏ قُلْ‏:‏ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَهَذَا اللَّفْظُ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ‏.‏

وَمِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ سُجُودُ الْمُرِيدِ لِلشَّيْخِ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ مِنَ السَّاجِدِ وَالْمَسْجُودِ لَهُ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ لَيْسَ هَذَا بِسُجُودٍ، وَإِنَّمَا هُوَ وَضْعُ الرَّأْسِ قُدَّامَ الشَّيْخِ احْتِرَامًا وَتَوَاضُعًا، فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ‏:‏ وَلَوْ سَمَّيْتُمُوهُ مَا سَمَّيْتُمُوهُ، فَحَقِيقَةُ السُّجُودِ وَضْعُ الرَّأْسِ لِمَنْ يُسْجَدُ لَهُ، وَكَذَلِكَ السُّجُودُ لِلصَّنَمِ، وَلِلشَّمْسِ، وَلِلنَّجْمِ، وَلِلْحَجَرِ، كُلُّهُ وَضْعُ الرَّأْسِ قُدَّامَهُ‏.‏

وَمِنْ أَنْوَاعِهِ رُكُوعُ الْمُتَعَمِّمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمُلَاقَاةِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَهَذَا سُجُودٌ فِي اللُّغَةِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ أَيْ مُنْحَنِينَ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ الدُّخُولُ بِالْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ‏:‏ سَجَدَتِ الْأَشْجَارُ، إِذَا أَمَالَتْهَا الرِّيحُ‏.‏

وَمِنْ أَنْوَاعِهِ حَلْقُ الرَّأْسِ لِلشَّيْخِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ فَإِنَّهُ تَعَبُّدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يُتَعَبَّدُ بِحَلْقِ الرَّأْسِ إِلَّا فِي النُّسُكِ لِلَّهِ خَاصَّةً‏.‏

وَمِنْ أَنْوَاعِهِ التَّوْبَةُ لِلشَّيْخِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ فَإِنَّهَا شِرْكٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالنُّسُكِ، فَهِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ‏.‏

وَفِي الْمُسْنَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ‏.‏

فَالتَّوْبَةُ عِبَادَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ، كَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ‏.‏

وَمِنْ أَنْوَاعِهِ‏:‏ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ فَكَيْفَ بِمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ‏؟‏ مَعَ أَنَّ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّذْرُ حَلْفَةٌ‏.‏

وَمِنْ أَنْوَاعِهِ‏:‏ الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَالْعَمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَالْإِنَابَةُ وَالْخُضُوعُ، وَالذُّلُّ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَابْتِغَاءُ الرِّزْقِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَحَمَدُ غَيْرِهِ عَلَى مَا أَعْطَى، وَالْغُنْيَةُ بِذَلِكَ عَنْ حَمْدِهِ سُبْحَانَهُ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَالذَّمُّ وَالسَّخَطُ عَلَى مَا لَمْ يَقْسِمْهُ، وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْقَدَرُ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَإِضَافَةُ نِعَمِهِ إِلَى غَيْرِهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَاعْتِقَادُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَوْنِ مَا لَا يَشَاؤُهُ أَنْوَاعُ الشِّرْكِ‏.‏

وَمِنْ أَنْوَاعِهِ طَلَبُ الْحَوَائِجِ مِنَ الْمَوْتَى، وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِمْ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِمْ أَنْوَاعُ الشِّرْكِ‏.‏

وَهَذَا أَصْلُ شِرْكِ الْعَالَمِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ قَدِ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرَّا وَلَا نَفْعًا، فَضْلًا عَمَّنِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَسَأَلَهُ قَضَاءَ حَاجَتِهِ، أَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ بِالشَّافِعِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُ عِنْدَهُ‏,‏ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ لَمْ يَجْعَلِ اسْتِغَاثَتَهُ وَسُؤَالَهُ سَبَبًا لِإِذْنِهِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ لِإِذْنِهِ كَمَالُ التَّوْحِيدِ، فَجَاءَ هَذَا الْمُشْرِكُ بِسَبَبٍ يَمْنَعُ الْإِذْنَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنِ اسْتَعَانَ فِي حَاجَةٍ بِمَا يَمْنَعُ حُصُولَهَا، وَهَذِهِ حَالَةُ كُلِّ مُشْرِكٍ، وَالْمَيِّتُ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَدْعُو لَهُ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، كَمَا أَوْصَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زُرْنَا قُبُورَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ، وَنَسْأَلَ لَهُمُ الْعَافِيَةَ وَالْمَغْفِرَةَ، فَعَكَسَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا، وَزَارُوهُمْ زِيَارَةَ الْعِبَادَةِ، وَاسْتِقْضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ، وَجَعَلُوا قُبُورَهُمْ أَوْثَانًا تُعْبَدُ، وَسَمَّوْا قَصْدَهَا حَجًّا، وَاتَّخَذُوا عِنْدَهَا الْوَقْفَةَ وَحَلَقَ الرَّأْسِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الشِّرْكِ بِالْمَعْبُودِ الْحَقِّ، وَتَغْيِيرِ دِينِهِ، وَمُعَادَاةِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَنِسْبَةِ أَهْلِهِ إِلَى التَّنَقُّصِ لِلْأَمْوَاتِ، وَهُمْ قَدْ تَنَقَّصُوا الْخَالِقَ بِالشِّرْكِ، وَأَوْلِيَاءَهُ- الْمُوَحِّدِينَ لَهُ، الَّذِينَ لَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا- بِذَمِّهِمْ وَعَيْبِهِمْ وَمُعَادَاتِهِمْ، وَتَنَقَّصُوا مَنْ أَشْرَكُوا بِهِ غَايَةَ التَّنَقُّصِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ رَاضُونَ مِنْهُمْ بِهَذَا، وَأَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِهِ، وَأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا أَكْثَرَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمْ‏!‏ وَلِلَّهِ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ يقول‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ‏}‏‏.‏

وَمَا نَجَا مِنْ شَرَكِ هَذَا الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ إِلَّا مَنْ جَرَّدَ تَوْحِيدَهُ لِلَّهِ، وَعَادَى الْمُشْرِكِينَ فِي اللَّهِ، وَتَقَرَّبَ بِمَقْتِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَاتَّخَذَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلِيَّهُ وَإِلَهَهُ وَمَعْبُودَهُ، فَجَرَّدَ حُبَّهُ لِلَّهِ، وَخَوْفَهُ لِلَّهِ، وَرَجَاءَهُ لِلَّهِ، وَذُلَّهُ لِلَّهِ، وَتَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِعَانَتَهُ بِاللَّهِ، وَالْتِجَاءَهُ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِغَاثَتَهُ بِاللَّهِ، وَأَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ، مُتَّبِعًا لِأَمْرِهِ، مُتَطَلِّبًا لِمَرْضَاتِهِ، إِذَا سَأَلَ سَأَلَ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَانَ اسْتَعَانَ بِاللَّهِ، وَإِذَا عَمِلَ عَمِلَ لِلَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَمَعَ اللَّهِ‏.‏

وَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ‏.‏

وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ أَنْوَاعَهُ لَاتَّسَعَ الْكَلَامُ أَعْظَمَ اتِّسَاعٍ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُسَاعِدَ بِوَضْعِ كِتَابٍ فِيهِ، وَفِي أَقْسَامِهِ، وَأَسْبَابِهِ وَمَبَادِيهِ، وَمَضَرَّتِهِ، وَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ‏.‏

فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَجَا مِنْهُ وَمِنَ التَّعْطِيلِ- وَهُمَا الدَّاءَانِ اللَّذَانِ هَلَكَتْ بِهِمَا الْأُمَمُ- فَمَا بَعْدَهُمَا أَيْسَرُ مِنْهُمَا، وَإِنْ هَلَكَ بِهِمَا فَبِسَبِيلِ مَنْ هَلَكَ، وَلَا آسَى عَلَى الْهَالِكِينَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ النِّفَاقِ

وَأَمَّا النِّفَاقُ وَأَنْوَاعُهُ‏:‏ فَالدَّاءُ الْعُضَالُ الْبَاطِنُ، الَّذِي يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عَلَى النَّاسِ، وَكَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، فَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ‏.‏

وَهُوَ نَوْعَانِ‏:‏ أَكْبَرُ، وَأَصْغَرُ‏.‏

فَالْأَكْبَرُ يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ فِي دَرْكِهَا الْأَسْفَلِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُنْسَلِخٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُكَذِّبٌ بِهِ، لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَنْزَلَهُ عَلَى بَشَرٍ جَعَلَهَ رَسُولًا لِلنَّاسِ، يَهْدِيهِمْ بِإِذْنِهِ، وَيُنْذِرُهُمْ بَأْسَهُ، وَيُخَوِّفُهُمْ عِقَابَهُ‏.‏

وَقَدْ هَتَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْتَارَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَجَلَّى لِعِبَادِهِ أُمُورَهُمْ، لِيَكُونُوا مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِهَا عَلَى حَذَرٍ، وَذَكَرَ طَوَائِفَ الْعَالَمِ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ‏:‏ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفَّارَ، وَالْمُنَافِقِينَ، فَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَ آيَاتٍ، وَفِي الْكُفَّارِ آيَتَيْنِ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، لِكَثْرَتِهِمْ وَعُمُومِ الِابْتِلَاءِ بِهِمْ، وَشِدَّةِ فِتْنَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ بَلِيَّةَ الْإِسْلَامِ بِهِمْ شَدِيدَةٌ جِدًّا، لِأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونُ إِلَيْهِ، وَإِلَى نُصْرَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ، وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، يُخْرِجُونَ عَدَاوَتَهُ فِي كُلِّ قَالَبٍ يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهُ عِلْمٌ وَإِصْلَاحٌ، وَهُوَ غَايَةُ الْجَهْلِ وَالْإِفْسَادِ‏.‏

فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ مَعْقِلٍ لِلْإِسْلَامِ قَدْ هَدَمُوهُ‏؟‏‏!‏ وَكَمْ مِنْ حِصْنٍ لَهُ قَدْ قَلَعُوا أَسَاسَهُ وَخَرَّبُوهُ‏؟‏‏!‏ وَكَمْ مِنْ عِلْمٍ لَهُ قَدْ طَمَسُوهُ‏؟‏‏!‏ وَكَمْ مِنْ لِوَاءٍ لَهُ مَرْفُوعٍ قَدْ وَضَعُوهُ‏؟‏‏!‏ وَكَمْ ضَرَبُوا بِمَعَاوِلِ الشُّبَهِ فِي أُصُولِ غِرَاسِهِ لِيَقْلَعُوهَا‏؟‏‏!‏ وَكَمْ عَمَّوْا عُيُونَ مَوَارِدِهِ بِآرَائِهِمْ لِيَدْفِنُوهَا وَيَقْطَعُوهَا‏؟‏‏!‏‏.‏

فَلَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مِنْهُمْ فِي مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ، وَلَا يَزَالُ يَطْرُقُهُ مِنْ شُبَهِهِمْ سَرِيَّةٌ بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُصْلِحُونَ ‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏، ‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

اتَّفَقُوا عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَحْيِ، فَهُمْ عَلَى تَرْكِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ مُجْتَمِعُونَ ‏{‏فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏، ‏{‏يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا‏}‏ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ‏{‏اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا‏}‏‏.‏

دَرَسَتْ مَعَالِمُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا، وَدَثَرَتْ مَعَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرُونَهَا، وَأَفَلَتْ كَوَاكِبُهُ النَّيِّرَةُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يُحِبُّونَهَا، وَكَسَفَتْ شَمْسُهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلَمِ آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا، لَمْ يَقْبَلُوا هُدَى اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ، وَلَمْ يَرْفَعُوا بِهِ رَأْسًا، وَلَمْ يَرَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِلَى آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ بَأْسًا، خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ عَنْ سَلْطَنَةِ الْحَقِيقَةِ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وِلَايَةِ الْيَقِينِ، وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةَ، فَلَا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٍ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ، فَقَابَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَنْبَغِي لَهَا مِنَ الْقَبُولِ وَالْإِكْرَامِ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي الصُّدُورِ مِنْهَا وَالْأَعْجَازِ، وَقَالُوا‏:‏ مَا لَكَ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ- وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ- فَعَلَى سَبِيلِ الِاجْتِيَازِ، أَعَدُّوا لِدَفْعِهَا أَصْنَافَ الْعُدَدِ وَضُرُوبَ الْقَوَانِينِ، وَقَالُوا- لَمَّا حَلَّتْ بِسَاحَتِهِمْ-‏:‏ مَا لَنَا وَلِظَوَاهِرَ لَفْظِيَّةٍ لَا تُفِيدُنَا شَيْئًا مِنَ الْيَقِينِ، وَعَوَامُّهُمْ قَالُوا‏:‏ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ خَلَفَنَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا مِنَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَأَقْوَمُ بِطَرَائِقِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، وَأُولَئِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ السَّذَاجَةُ وَسَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَمْهِيدِ قَوَاعِدِ النَّظَرِ، وَلَكِنْ صَرَفُوا هِمَمَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، فَطَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَطَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَجْهَلُ، لَكِنَّهَا أَسْلَمُ‏.‏

أَنْزَلُوا نُصُوصَ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ وَفِي الْخُطْبَةِ فَوْقَ الْمَنَابِرِ مَرْفُوعٌ، وَالْحُكْمُ النَّافِذُ لِغَيْرِهِ، فَحُكْمُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا مَسْمُوعٍ‏.‏

لَبِسُوا ثِيَابَ أَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْخُسْرَانِ، وَالْغِلِّ وَالْكُفْرَانِ، فَالظَّوَاهِرُ ظَوَاهِرُ الْأَنْصَارِ، وَالْبَوَاطِنُ قَدْ تَحَيَّزَتْ إِلَى الْكُفَّارِ، فَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْمُسَالِمِينَ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الْمُحَارِبِينَ، وَيَقُولُونَ‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

رَأْسُ مَالِهِمُ الْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ، وَبِضَاعَتُهُمُ الْكَذِبُ وَالْخَتْرُ، وَعِنْدَهُمُ الْعَقْلُ الْمَعِيشِيُّ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ عَنْهُمْ رَاضُونَ، وَهُمْ بَيْنَهُمْ آمِنُونَ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

قَدْ نَهَكَتْ أَمْرَاضُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ قُلُوبَهُمْ فَأَهْلَكَتْهَا، وَغَلَبَتِ الْقُصُودُ السَّيِّئَةُ عَلَى إِرَادَاتِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ فَأَفْسَدَتْهَا، فَفَسَادُهُمْ قَدْ تَرَامَى إِلَى الْهَلَاكِ، فَعَجَزَ عَنْهُ الْأَطِبَّاءُ الْعَارِفُونَ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏‏.‏

مَنْ عَلَقَتْ مَخَالِبُ شُكُوكِهِمْ بِأَدِيمِ إِيمَانِهِ مَزَّقَتْهُ كُلَّ تَمْزِيقٍ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَرَرُ فِتْنَتِهِمْ بِقَلْبِهِ أَلْقَاهُ فِي عَذَابِ الْحَرِيقِ، وَمَنْ دَخَلَتْ شُبُهَاتُ تَلْبِيسِهِمْ فِي مَسَامِعِهِ حَالَ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ، فَفَسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرَ، مَبْخُوسٌ حَظُّهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَالدَّائِرُ مَعَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمْ كَحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فَهَمُّهُ فِي حَمْلِ الْمَنْقُولِ، وَبِضَاعَةُ تَاجِرِ الْوَحْيِ لَدَيْهِمْ كَاسِدَةٌ، وَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ بِمَقْبُولٍ، وَأَهْلُ الِاتِّبَاعِ عِنْدَهُمْ سُفَهَاءُ فَهُمْ فِي خَلَوَاتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ بِهِمْ يَتَطَيَّرُونَ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

لِكُلٍّ مِنْهُمْ وَجْهَانِ، وَجْهٌ يَلْقَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَجْهٌ يَنْقَلِبُ بِهِ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُلْحِدِينَ، وَلَهُ لِسَانَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا يَقْبَلُهُ بِظَاهِرِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَالْآخَرُ يُتَرْجِمُ بِهِ عَنْ سِرِّهِ الْمَكْنُونِ ‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ‏}‏‏.‏

قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِهْزَاءً بِأَهْلِهِمَا وَاسْتِحْقَارًا، وَأَبَوْا أَنْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْوَحْيَيْنِ فَرَحًا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ أَشَرًا وَاسْتِكْبَارًا، فَتَرَاهُمْ أَبَدًا بِالْمُتَمَسِّكِينَ بِصَرِيحِ الْوَحْيِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

خَرَجُوا فِي طَلَبِ التِّجَارَةِ الْبَائِرَةِ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ، فَرَكِبُوا مَرَاكِبَ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجِ الْخَيَالَاتِ، فَلَعِبَتْ بِسُفُنِهِمُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ، فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ سُفُنِ الْهَالِكِينَ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏

أَضَاءَتْ لَهُمْ نَارُ الْإِيمَانِ فَأَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهَا مَوَاقِعَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، ثُمَّ طُفِئَ ذَلِكَ النُّورُ، وَبَقِيَتْ نَارٌ تَأَجَّجُ ذَاتُ لَهَبٍ وَاشْتِعَالٍ، فَهُمْ بِتِلْكَ النَّارِ مُعَذَّبُونَ، وَفِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ يَعْمَهُونَ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏

أَسْمَاعُ قُلُوبِهِمْ قَدْ أَثْقَلَهَا الْوَقْرُ، فَهِيَ لَا تَسْمَعُ مُنَادِيَ الْإِيمَانِ، وَعُيُونُ بَصَائِرِهِمْ عَلَيْهَا غِشَاوَةُ الْعَمَى، فَهِيَ لَا تُبْصِرُ حَقَائِقَ الْقُرْآنِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ بِهَا خَرَسٌ عَنِ الْحَقِّ فَهُمْ بِهِ لَا يَنْطِقُونَ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

صَابَ عَلَيْهِمْ صَيِّبُ الْوَحْيِ، وَفِيهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ إِلَّا رَعْدَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكَالِيفِ الَّتِي وُظِّفَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، فَجَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَجَدُّوا فِي الْهَرَبِ، وَالطَّلَبُ فِي آثَارِهِمْ وَالصِّيَاحُ، فَنُودِيَ عَلَيْهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَكُشِفَتْ حَالُهُمْ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ، وَضُرِبَ لَهُمْ مَثَلَانِ بِحَسَبَ حَالِ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ‏:‏ الْمُنَاظِرِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ، فَقِيلَ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

ضَعُفَتْ أَبْصَارُ بَصَائِرِهِمْ عَنِ احْتِمَالِ مَا فِي الصَّيِّبِ مِنْ بُرُوقِ أَنْوَارِهِ وَضِيَاءِ مَعَانِيهِ، وَعَجَزَتْ أَسْمَاعُهُمْ عَنْ تَلَقِّي رُعُودِ وُعُودِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ حَيَارَى فِي أَوْدِيَةِ التِّيهِ، لَا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ السَّامِعُ، وَلَا يَهْتَدِي بِبَصَرِهِ الْبَصِيرُ، ‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

لَهُمْ عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا مُبَيَّنَةٌ فِي السُّنَّةِ وَالْقُـرَآنِ، بَادِيَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا مِنْ أَهْلِ بَصَائِرِ الْإِيمَانِ، قَامَ بِهِمْ- وَاللَّهِ- الرِّيَاءُ، وَهُوَ أَقْبَحُ مَقَامٍ قَامَهُ الْإِنْسَانُ، وَقَعَدَ بِهِمُ الْكَسَلُ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَوَامِرِ الرَّحْمَنِ، فَأَصْبَحَ الْإِخْلَاصُ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ ثَقِيلًا‏}‏ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏‏.‏

أَحَدُهُمْ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَيْعَرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَلَا تَسْتَقِرُّ مَعَ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ، فَهُمْ وَاقِفُونَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ، يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْوَى وَأَعَزُّ قَبِيلًا ‏{‏مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا‏}‏‏.‏

يَتَرَبَّصُونَ الدَّوَائِرَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ، قَالُوا‏:‏ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ‏؟‏ وَأَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِأَعْدَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ النُّصْرَةِ نَصِيبٌ، قَالُوا‏:‏ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ عَقْدَ الْإِخَاءِ بَيْنَنَا مُحْكَمٌ، وَأَنَّ النَّسَبَ بَيْنَنَا قَرِيبٌ‏؟‏ فَيَا مَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَتَهُمْ، خُذْ صِفَاتِهِمْ مِنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَا تَحْتَاجُ بَعْدَهُ دَلِيلًا ‏{‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا‏}‏‏.‏

يُعْجِبُ السَّامِعَ قَوْلُ أَحَدِهِمْ لِحَلَاوَتِهِ وَلِينِهِ، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ كَذِبِهِ وَمَيْنِهِ، فَتَرَاهُ عِنْدَ الْحَقِّ نَائِمًا، وَفِي الْبَاطِلِ عَلَى الْأَقْدَامِ، فَخُذْ وَصْفَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ‏}‏‏.‏

أَوَامِرُهُمُ الَّتِي يَأْمُرُونَ بِهَا أَتْبَاعَهُمْ مُتَضَمِّنَةٌ لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَنَوَاهِيهِمْ عَمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَحَدُهُمْ تَلْقَاهُ بَيْنَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَالِاجْتِهَادِ ‏{‏وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏}‏‏.‏

فَهُمْ جِنْسٌ بَعْضُهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ بَعْدَ أَنْ يَتْرُكُوهُ، وَيَبْخَلُونَ بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ أَنْ يُنْفِقُوهُ، كَمْ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِنِعَمِهِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَنَسُوهُ‏؟‏ وَكَمْ كَشَفَ حَالَهُمْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْتَنِبُوهُ‏؟‏ فَاسْمَعُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنِينَ ‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

إِنْ حَاكَمْتَهُمْ إِلَى صَرِيحِ الْوَحْيِ وَجَدْتَهُمْ عَنْهُ نَافِرِينَ، وَإِنْ دَعْوَتَهُمْ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتَهُمْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَلَوْ شَهِدْتَ حَقَائِقَهُ لَرَأَيْتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهُدَى أَمَدًا بَعِيدًا، وَرَأَيْتَهَا مُعْرِضَةً عَنِ الْوَحْيِ إِعْرَاضًا شَدِيدًا ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا‏}‏‏.‏

فَكَيْفَ لَهُمْ بِالْفَلَاحِ وَالْهُدَى‏!‏ بَعْدَمَا أُصِيبُوا فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ‏؟‏ وَأَنَّى لَهُمُ التَّخَلُّصُ مِنَ الضَّلَالِ وَالرَّدَى‏!‏ وَقَدِ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِإِيمَانِهِمْ‏؟‏ فَمَا أَخْسَرَ تِجَارَتَهُمُ الْبَائِرَةَ‏!‏ وَقَدِ اسْتَبْدَلُوا بِالرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ حَرِيقًا ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا‏}‏‏.‏

نَشَبَ زَقُّومُ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ لَهُ مُسِيغًا ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا‏}‏‏.‏

تَبًّا لَهُمْ، مَا أَبْعَدَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ‏!‏ وَمَا أَكْذَبَ دَعْوَاهُمْ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ، فَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ وَأَتْبَاعُ الرَّسُولِ فِي شَأْنٍ، لَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي كِتَابِهِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ قَسَمًا عَظِيمًا، يَعْرِفُ مَضْمُونَهُ أُولُو الْبَصَائِرِ، فَقُلُوبُهُمْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ إِجْلَالًا لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَقَالَ تَعَالَى تَحْذِيرًا لِأَوْلِيَائِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ وَتَفْهِيمًا ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏‏.‏

تَسْبِقُ يَمِينُ أَحَدِهِمْ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ قُلُوبَ أَهْلِ الْإِيمَانِ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، فَيَتَبَرَّأُ بِيَمِينِهِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ وَكَشْفِ مَا لَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الرِّيبَةِ يَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ لِيَحْسَبَ السَّامِعُ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ، قَدِ ‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

تَبًّا لَهُمْ‏!‏ بَرَزُوا إِلَى الْبَيْدَاءِ مَعَ رَكْبِ الْإِيمَانِ، فَلَمَّا رَأَوْا طُولَ الطَّرِيقِ وَبُعْدَ الشُّقَّةِ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَرَجَعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِطِيبِ الْعَيْشِ وَلَذَّةِ الْمَنَامِ فِي دِيَارِهِمْ، فَمَا مُتِّعُوا بِهِ وَلَا بِتِلْكَ الْهَجْعَةِ انْتَفَعُوا، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ صَاحَ بِهِمُ الصَّائِحُ فَقَامُوا عَنْ مَوَائِدِ أَطْعِمَتِهِمْ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ مَا شَبِعُوا، فَكَيْفَ حَالُهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ‏؟‏ وَقَدْ عَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا، وَعَمُوا بَعْدَمَا عَايَنُوا الْحَقَّ وَأَبْصَرُوا ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

أَحْسَنُ النَّاسِ أَجْسَامًا، وَأَخْلَبُهُمْ لِسَانًا، وَأَلْطَفُهُمْ بَيَانًا، وَأَخْبَثُهُمْ قُلُوبًا، وَأَضْعَفُهُمْ جَنَانًا، فَهُمْ كَالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ الَّتِي لَا ثَمَرَ لَهَا، قَدْ قُلِعَتْ مِنْ مَغَارِسِهَا فَتَسَانَدَتْ إِلَى حَائِطٍ يُقِيمُهَا، لِئَلَّا يَطَأَهَا السَّالِكُونَ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏‏.‏

يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا الْأَوَّلِ إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى فَالصُّبْحُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالْعَصْرُ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَيَنْقُرُونَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، إِذْ هِيَ صَلَاةُ الْأَبْدَانِ، لَا صَلَاةُ الْقُلُوبِ، وَيَلْتَفِتُونَ فِيهَا الْتِفَاتَ الثَّعْلَبِ، إِذْ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مَطْرُودٌ مَطْلُوبٌ، وَلَا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةَ، بَلْ إِنْ صَلَّى أَحَدُهُمْ فَفِي الْبَيْتِ أَوِ الدُّكَّانِ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ لِلْخَلْقِ، وَتِلْكَ مُعَامَلَتُهُمْ لِلْخَالِقِ، فَخُذْ وَصْفَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْمُطَفِّفِينَ، وَآخِرِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ فَلَا يُنْبِئُكُ عَنْ أَوْصَافِهِمْ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ فَمَا أَكْثَرَهُمْ‏!‏ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَمَا أَجْبَرَهُمْ‏!‏ وَهُمُ الْأَذَلُّونَ، وَمَا أَجْهَلَهُمْ‏!‏ وَهُمُ الْمُتَعَالِمُونَ، وَمَا أَغَرَّهُمْ بِاللَّهِ‏!‏ إِذْ هُمْ بِعَظَمَتِهِ جَاهِلُونَ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏‏.‏

إِنْ أَصَابَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَافِيَةٌ وَنَصْرٌ وَظُهُورٌ سَاءَهُمْ ذَلِكَ وَغَمَّهُمْ، وَإِنْ أَصَابَهُمُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ يُمَحِّصُ بِهِ ذُنُوبَهُمْ، وَيُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَفْرَحَهُمْ ذَلِكَ وَسَرَّهُمْ، وَهَذَا يُحَقِّقُ إِرْثَهُمْ وَإِرْثَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَلَا يَسْتَوِي مَنْ مَوْرُوثُهُ الْمُنَافِقُونَ ‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّلَفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَالْحَقُّ لَا يَنْدَفِعُ بِمُكَابَرَةِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالتَّخْلِيطِ، ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏‏.‏

كَرِهَ اللَّهُ طَاعَاتِهِمْ، لِخُبْثِ قُلُوبِهِمْ وَفَسَادِ نِيَّاتِهِمْ، فَثَبَّطَهُمْ عَنْهَا وَأَقْعَدَهُمْ، وَأَبْغَضَ قُرْبَهُمْ مِنْهُ وَجِوَارَهُ، لِمَيْلِهِمْ إِلَى أَعْدَائِهِ، فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُمْ، وَأَعْرَضُوا عَنْ وَحْيِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَأَشْقَاهُمْ وَمَا أَسْعَدَهُمْ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمٍ عَدْلٍ لَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي الْفَلَاحِ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنَ التَّائِبِينَ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ‏}‏ ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَتَهُ فِي تَثْبِيطِهِمْ وَإِقْعَادِهِمْ، وَطَرْدِهِمْ عَنْ بَابِهِ وَإِبْعَادِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ بِأَوْلِيَائِهِ وَإِسْعَادِهِمْ، فَقَالَ، وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏{‏لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

ثَقُلَتْ عَلَيْهِمُ النُّصُوصُ فَكَرِهُوهَا، وَأَعْيَاهُمْ حَمْلُهَا فَأَلْقَوْهَا عَنْ أَكْتَافِهِمْ وَوَضَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمُ السُّنَنُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَأَهْمَلُوهَا، وَصَالَتْ عَلَيْهِمْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَضَعُوا لَهَا قَوَانِينَ رَدُّوهَا بِهَا وَدَفَعُوهَا، وَقَدْ هَتَكَ اللَّهُ أَسْتَارَهُمْ، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ، وَضَرَبَ لِعِبَادِهِ أَمْثَالَهُمْ، وَأَعْلَمَ أَنَّهُ كُلَّمَا انْقَرَضَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ خَلَفَهُمْ أَمْثَالُهُمْ، فَذَكَرَ أَوْصَافَهُمْ، لِأَوْلِيَائِهِ لِيَكُونُوا مِنْهَا عَلَى حَذَرٍ، وَبَيَّنَهَا لَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏.‏

هَذَا شَأْنُ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، فَرَآهَا حَائِلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِدْعَتِهِ وَهَوَاهُ، فَهِيَ فِي وَجْهِهِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، فَبَاعَهَا بِمُحَصَّلٍ مِنَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، وَاسْتَبْدَلَ مِنْهَا بِالْفُصُوصِ فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ أَنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ إِعْلَانَهُمْ وَإِسْرَارَهُمْ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏.‏

أَسَرُّوا سَرَائِرَ النِّفَاقِ، فَأَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوُجُوهِ مِنْهُمْ، وَفَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَوَسَمَهُمْ لِأَجْلِهَا بِسِيمَاءَ لَا يَخْفَوْنَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْبَصَائِرِ وَالْإِيمَانِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذْ كَتَمُوا كُفْرَهُمْ وَأَظْهَرُوا إِيمَانَهُمْ رَاجُوا عَلَى الصَّيَارِفِ وَالنُّقَّادِ، كَيْفَ وَالنَّاقِدُ الْبَصِيرُ قَدْ كَشَفَهَا لَكُمْ‏؟‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏.‏

فَكَيْفَ إِذَا جُمِعُوا لِيَوْمِ التَّلَاقِ، وَتَجَلَّى اللَّهُ- جَلَّ جَلَالُهُ- لِلْعِبَادِ وَقَدْ كُشِفَ عَنْ سَاقٍ‏؟‏ وَدُعُوا إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏{‏خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ‏}‏‏.‏

أَمْ كَيْفَ بِهِمْ إِذَا حُشِرُوا إِلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ وَصْفُهُ‏؟‏ وَهُوَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ الْحُسَامِ، وَهُوَ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، مُظْلِمٌ لَا يَقْطَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا بِنُورٍ يُبْصِرُ بِهِ مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ، فَقُسِّمَتْ بَيْنَ النَّاسِ الْأَنْوَارُ، وَهُمْ عَلَى قَدْرِ تَفَاوُتِهَا فِي الْمُرُورِ وَالذَّهَابِ، وَأُعْطُوا نُورًا ظَاهِرًا مَعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، كَمَا كَانُوا بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَأْتُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْجِسْرَ عَصَفَتْ عَلَى أَنْوَارِهِمْ أَهْوِيَةُ النِّفَاقِ، فَأَطْفَأَتْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَصَابِيحِ، فَوَقَفُوا حَيَارَى لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُورَ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، وَلَكِنْ قَدْ حِيلَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الْمَفَاتِيحِ، بَاطِنُهُ- الَّذِي يَلِي الْمُؤْمِنِينَ- فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِمُ الْعَذَابُ وَالنِّقْمَةُ، يُنَادُونَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ وَفْدِ الْإِيمَانِ، وَمَشَاعِلُ الرَّكْبِ تَلُوحُ عَلَى بُعْدٍ كَالنُّجُومِ، تَبْدُو لِنَاظِرِ الْإِنْسَانِ ‏{‏انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ‏}‏ لِنَتَمَكَّنَ فِي هَذَا الْمَضِيقِ مِنَ الْعُبُورِ، فَقَدْ طُفِئَتْ أَنْوَارُنَا، وَلَا جَوَازَ الْيَوْمَ إِلَّا بِمِصْبَاحٍ مِنَ النُّورِ ‏{‏قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا‏}‏ حَيْثُ قُسِّمَتِ الْأَنْوَارُ، فَهَيْهَاتَ الْوُقُوفُ لِأَحَدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمِضْمَارِ‏!‏ كَيْفَ نَلْتَمِسُ الْوُقُوفَ فِي هَذَا الْمَضِيقِ‏؟‏ فَهَلْ يَلْوِي الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ‏؟‏ وَهَلْ يَلْتَفِتُ الْيَوْمَ رَفِيقٌ إِلَى رَفِيقٍ‏؟‏ فَذَكَّرُوهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُمْ وَصُحْبَتِهِمْ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، كَمَا يُذَكِّرُ الْغَرِيبُ صَاحِبَ الْوَطَنِ بِصُحْبَتِهِ لَهُ فِي الْأَسْفَارِ ‏{‏أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ‏}‏ نَصُومُ كَمَا تَصُومُونَ، وَنُصَلِّي كَمَا تُصَلُّونَ، وَنَقْرَأُ كَمَا تَقْرَءُونَ، وَنَتَصَدَّقُ كَمَا تَتَصَدَّقُونَ، وَنَحُجُّ كَمَا تَحُجُّونَ‏؟‏ فَمَا الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَنَا الْيَوْمَ، حَتَّى انْفَرَدْتُمْ دُونَنَا بِالْمُرُورِ‏؟‏ ‏{‏قَالُوا بَلَى‏}‏ وَلَكِنَّكُمْ كَانَتْ ظَوَاهِرُكُمْ مَعَنَا وَبَوَاطِنُكُمْ مَعَ كُلِّ مُلْحِدٍ، وَكُلِّ ظَلُومٍ كَفُورٍ ‏{‏وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

لَا تَسْتَطِلْ أَوْصَافَ الْقَوْمِ، فَالْمَتْرُوكُ- وَاللَّهِ- أَكْثَرُ مِنَ الْمَذْكُورِ، كَادَ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي شَأْنِهِمْ، لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَفِي أَجْوَافِ الْقُبُورِ، فَلَا خَلَتْ بِقَاعُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ لِئَلَّا يَسْتَوْحِشَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الطُّرُقَاتِ، وَتَتَعَطَّلَ بِهِمْ أَسْبَابُ الْمَعَايِشِ، وَتَخْطَفَهُمُ الْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ فِي الْفَلَوَاتِ، سَمِعَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ‏:‏ يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ هَلَكَ الْمُنَافِقُونَ لَاسْتَوْحَشْتُمْ فِي طُرُقَاتِكُمْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِ‏.‏

تَاللَّهِ لَقَدْ قَطَّعَ خَوْفُ النِّفَاقِ قُلُوبَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، لِعِلْمِهِمْ بِدِقِّهِ وَجِلِّهِ وَتَفَاصِيلِهِ وَجُمَلِهِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ بِنُفُوسِهِمْ حَتَّى خَشَوْا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏:‏ يَا حُذَيْفَةُ، نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ‏:‏ أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ‏:‏ مَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَمَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ، قِيلَ‏:‏ وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ يُرَى الْبَدَنُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ‏.‏

تَاللَّهِ لَقَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُ الْقَوْمِ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَخَوْفُهُمْ مِنَ النِّفَاقِ شَدِيدٌ، وَهَمُّهُمْ لِذَلِكَ ثَقِيلٌ، وَسِوَاهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ‏.‏

زَرْعُ النِّفَاقِ يَنْبُتُ عَلَى سَاقِيَتَيْنِ‏:‏ سَاقِيَةِ الْكَذِبِ، وَسَاقِيَةِ الرِّيَاءِ، وَمَخْرَجُهُمَا مِنْ عَيْنَيْنِ‏:‏ عَيْنِ ضِعْفِ الْبَصِيرَةِ، وَعَيْنِ ضَعْفِ الْعَزِيمَةِ، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعُ اسْتَحْكَمَ نَبَاتُ النِّفَاقِ وَبُنْيَانُهُ، وَلَكِنَّهُ بِمَدَارِجِ السُّيُولِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَإِذَا شَاهَدُوا سَيْلَ الْحَقَائِقِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكُشِفَ الْمَسْتُورُ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، تَبَيَّنَ حِينَئِذٍ لِمَنْ كَانَتْ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقَ أَنَّ حَوَاصِلَهُ الَّتِي حَصَّلَهَا كَانَتْ كَالسَّرَابِ ‏{‏يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

قُلُوبُهُمْ عَنِ الْخَيْرَاتِ لَاهِيَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ إِلَيْهَا سَاعِيَةٌ، وَالْفَاحِشَةُ فِي فِجَاجِهِمْ فَاشِيَّةٌ، وَإِذَا سَمِعُوا الْحَقَّ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ قَاسِيَةً، وَإِذَا حَضَرُوا الْبَاطِلَ وَشَهِدُوا الزُّورَ انْفَتَحَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَتْ آذَانُهُمْ وَاعِيَةً

فَهَذِهِ- وَاللَّهِ- أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرْهَا أَيُّهَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بِكَ الْقَاضِيَةُ، إِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَفُوا، وَإِنْ وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِنْ قَالُوا لَمْ يُنْصِفُوا، وَإِنْ دُعُوا إِلَى الطَّاعَةِ وَقَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏:‏ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتْهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا، فَذَرْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْهَوَانِ، وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، فَلَا تَثِقْ بِعُهُودِهِمْ، وَلَا تَطْمَئِنَّ إِلَى وُعُودِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِيهَا كَاذِبُونَ، وَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مُخَالِفُونَ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏‏.‏